فصل: فصل: في قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: في تعريف الصراط باللام:

وأما المسألة الثانية وهي تعريف الصراط باللام اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره ألا ترى أن قولك جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيبا كقولك أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق» ثم قال: «ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق». رواه البخاري ومسلم فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه فإذا عرفت هذا فلو قال اهدنا صراطا مستقيما لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف فإن قيل: لم جاء منكرا في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجيء معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل وهذا بخلاف قوله {اهدنا الصراط المستقيم} فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله صراطا مستقيما هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول من هدايته عالما به دخلت اللام عليه فقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وقال السهيلي: إن قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظا من الإستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن أما قوله أن المراد بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسول صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطا مستقيما وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ثم فسره بقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونصب دينا هنا على البدل من الجار والمجرور أي هداني دينا قيما أفتراه يمكنه هاهنا أن يقول إن الحرب والمكيدة فهذا جواب فاسد جدا وتأمل: ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها: الفتح المبين والثاني: مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر والثالث: هدايته الصراط المستقيم والرابع: إتمام نعمته عليه والخامس: إعطاء النصر العزيز وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فهذا الهدى ثم قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْس شَدِيد} فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر وقال تعالى: {ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل وسر اقتران النصر بالهدى أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم ومن هذا قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين} فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال: إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في الأمالي المكية فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك البتة وأما جوابه الثاني عن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظا من الاستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم أفترى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يفهم منه أن لغيره حظا من الاستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم {صراط الذين أنعمت عليهم} وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال أنه يفهم منه أن لغيره حظا من الاستقامة بل يقال تعريفه ينبئ أن لا يكون لغيره حظ من الاستقامة فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله هنا وفي نظائره.

.فصل: اشتقاق الصراط:

وأما المسألة الثالثة: وهي اشتقاق الصراط فالمشهور أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعا سهلا فسمي الطريق صراطا لأنه يسترط المارة فيه والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا أعوج الموارد مستقيم

وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب يأتي لثلاثة معان أحدها: المصدر كالقتال والضراب والثاني: المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس والثالث: أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} وتعبيرهم عنه هاهنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لقومه: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم وإنما بعثت مصدقا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنوا الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.
أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس بدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه فذكر الطريق هاهنا إذا أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر.

.فصل: فوائد إضافة الصراط إلى الموصول المبهم:

وأما المسألة الرابعة: وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين ففيه ثلاث فوائد: إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط فبه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْف عَلَيْهِمْ} وهذا الباب مطرد فالإتيان بالاسم موصولا على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاص الفائدة الثانية: إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه الفائدة الثالثة: أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها.

.فصل: في قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة:

إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}.
ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى آخرها ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخرها ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وتأمل قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}.
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}.
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك: الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم.